تفسير
سورة القيامة
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[شريط مفرّغ]@
sfffffdddddg
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه السورة -سورة القيامة- من السور العظيمة التي اشتملت على ذكر تقرير البعث بعد الموت، وأنّ كل إنسان مُرتهن بعمله، وأنّ كل إنسان على بصيرة من نفسه؛ ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾، فيوم يجمع الله جل وعلا الخلق ليوم القيامة كل إنسان على بصيرة من أمره، ولو اعتذر بما اعتذر به فإنه لن تنفعه حين ذاك المعاذير، فلو ألقى المعاذير فهو على بصر ومعرفة بحقيقة الحال وما عمل وما قدّم.
والقيامة اسم من أسماء اليوم الآخر.
ومن المتقرر عند أهل العلم أن كثرة أسماء الشيء تدلّ على عظمه؛ لأنّ كثرة الأسماء تكون بكثرة الصّفات.
فالقيامة وصف لذلك اليوم، وسُمي ذلك اليوم فيوم القيامة؛ لأن الناس يكونون فيه لرب العالمين قياما طويلا، كما قال جل وعلا ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[المطففين]، يقومون ليس قيام يوم من أيام الدنيا أو يومين أو سنة أو سنتين؛ بل يقومون في ذلك اليوم العصيب قياما طويلا، ويكون مع ذلك القيام هلع في القلوب والحزن والخوف، إلا من نعم الله جل وعلا عليه في انتفاء الحزن والخوف عنهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾[الأنبياء:101-102] فذلك القيام الطويل معه الحزن لأنه انتظار، كل إنسان يبدأ يتذكر ما قدم وما سعى في يوم طويل يزداد معه الهم؛ لأنك إذا أردت أو كنت في استقبال من أمرك لشيء تبدأ تتخوف كلما طالب مدة انتظاره كلما زاد الخوف زاد الهلع وزاد ما في النفس، إلا من أنعم الله جل وعلا عليهم بألا يخافوا ولا يحزنوا وهم أهل العمل الصالح وأهل العلم النافع الذين قال الله جل وعلا فيهم ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[فصلت3] بعد الأوصاف السابقة في سورة فصلت.
إذن فاسم القيامة من أسماء اليوم الآخر وهو يوم وليس بأيام، والقيامة لأجل وصف القيام فيه الطويل.
وقال بعض أهل العلم: إن القيامة أيضا سميت بذلك أن الناس يقومون من قبورهم ويذهبون إلى أرض المحشر يجتمعون فيها.
ولها أسماء أخر وهذه السورة ابتدأها الرب جل وعلا بقوله ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، وأهل العلم يقولون: ﴿لَا أُقْسِمُ﴾ معناها أقسم ولكنه عدل عن القسم إلى نفي القسم زيادة في تأكيده.
فكأنه كرر القسم عدة مرات، كأنه قال جل وعلا: أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة.
فأتت لا هنا صلة مزيدة إعرابا لأجل تأكيد النفي لأجل تأكيد القسم كما جاء زيادة (ما) إعرابا ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾[آل عمران:159]، يعني فبرحمة من الله لنت لهم وفي نحو قولهم ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾[النساء:155]، يعني فبنقضهم ميثاقهم.
وهذا من أسرار اللغة العربية أن يكون هناك زيادة لحرف ويكون القصد من زيادة الحرف زيادة إعرابية يكون قصد من ذلك من زيادة ذلك الحرف أنه في مقام تكرير الجملة وفي مقام تأكيدها.
ولهذا هنا ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أعظم تأكيدا من لو قال جل وعلا أقسم بيوم القيامة فلو قال أقسم بالنفس اللوامة، فهذا يكون أقل مما هاهنا فلهذا فيه مزيد تأكيد للقسم.
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ القسم بيوم القيامة لأن الله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه؛ يقسم بالشمس بالقمر بالضحى، ويقسم بما شاء من الأشياء، وأما الخلق لا يجوز لهم أن يقسموا إلا بالله جل وعلا وبصفاته وأسمائه سبحانه وتعالى.
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ يعني وأقسم بالنفس اللوامة.
لم هنا صدر هذه السورة بالقسم بيوم القيامة وبعده بالقسم بالنفس اللوامة؟ لأن هذه السورة من مقاصدها الحديث عن ما يكون من الإنسان يوم القيامة من الفرار ومن إلقاء المعاذير؛ ﴿يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ هنا الذي يكون عنده لَوْم معاذير وصاحب النفس اللوامة، وما من أحد إلا ويلوم نفسه إلا المتمحض للشر، فلهذا أقسم جل وعلا هنا بالنفس اللوامة تعليما لشأن هذه النفس التي تلوم صاحبها.
لكن هذا اللوم إذا كان في الدنيا فالشأن وإذا كان في الآخرة فشأن آخر:
إذا كان في الدنيا فإنه إذا لام نفسه فإنه سيصحح سيبادر بالتوبة فيبادر بالإنابة.
وأما إذا كان اللوم يوم القيامة يلوم نفسه، فحينئذ لا ينفع اللوم، وكما قال سبحانه ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾[ص]، ما فيه؛ يعني ذاك اليوم تلوم نفسك أولا تلوم، لا ينفع نفس إذ ذاك لومها، ولا ينفع نفس إذ ذاك معذرتها، إلا من أتى الله جل وعلا بقلب سليم.
السورة اشتملت على أشياء كثيرة، وربما يضيق المقام عن ذكر تفسيرها بكاملها؛ لكن يوم القيامة -اليوم الآخر- الإيمان به من أركان الإيمان، واليوم الآخر أقام الله جل وعلا البرهان عليه في الكتاب في مواضع كثيرة، وهو لاشك سائر وكائن لا محالة، والبرهان عليه كثير في القرآن:
• برهان عقلي.
• وبرهان نقلي يعني بالنص.
• وأيضا هناك برهان اضطراري فإنه لابد منه.
كما قال جل وعلا في هذا البرهان الأخير ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾[ص:28]، فوجود الفئات المختلفة المطيع والعاصي، وجود الكافر والمؤمن، يتحكم معه عند ذي العقل إذا آمن بربوبية الله جل وعلا أن الرب لن يساوي بين هؤلاء؛ بل لابد أن يجعل هذا على حال وذاك على حال، ومن المنظور في الدنيا أن الدنيا أعدت للكافر وأما المؤمن ربما لم يأخذ حقه ونصيبه من النعيم في هذه الدنيا، فتقرر بأنه لابد وأن يكون المطيع للرب الذي خلق هذا الملكوت أنه سيحظى في نعيم الله جل وعلا، وهذا النعيم لابد أن يكون له معاد.
من البراهين قصة خلق آدم عليه السلام، فإن آدم خلقه الله جل وعلا وابتدأ خلقه من طين، من تراب، صلصال، حمأ مسنون، فلما اكتمل خلقه نفخ الله جل وعلا فيه الروح ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[ص2]، وهذا الابتداء -ابتداء للخلق أول مرة- برهان على الإعادة لأنك تجد أن الإنسان إذا مات ينعكس هذا الخلق.
فآخر ما دخل فيه الروح، وأول ما يخرج منه عند ابتداء الحياة الآخرة أول ما يخرج منه الروح، فبه صار بشرا سويا؛ بدخول الروح، فإذا أراد الله جل وعلا أن يميته أمر الملائكة بأن يقبضوا روحه فيبقى جسدا -يعني الإنسان- مثل ما كان أول مرة، جسدا لا روح فيه، لو نفخ فيه الروح صار حيا.
ثم بعد ذلك لو انتُظر بهذا الجسد قليلا بعد فراق الروح لانتقل إلى الحال قبل دخول الروح فيه أول مرة، ثم الحال التي تليه، ثم الحال حتى يكون ترابا رميما في القبر.
فإذن من براهين البعث العقلية خلق آدم الأول بعد الإقرار بما جاء به النص، خلق آدم الأول وأنه بعد موت الإنسان ينعكس ما حصل أولا، فتخرج الروح أولا، ثم يكون حمأ مسنونا في القبر ويتصلب، وبعد ذلك يكون صلصالا، ثم بعد ذلك يبدأ يتفتت حتى يكون ترابا، فيرجع إلى ما كان عليه.
تبقى بذرة الإنسان في القبر قد ثبت في الصحيح من حيث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «بين النفختين» -يعني النفخة الأولى والثانية يعني نفخة الصعق ونفخة البعث «بين النفختين أربعون» قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوما؟ قال: أبيت؟ قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. يعني أبيت أن أقول شيئا لا علم لي به قال بعد ذلك يعني تتمة لحديث النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «وكل شيء يبلى من ابن آدم إلا عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة».
لهذا في القرآن كثيرا ما تجد أن دليل البعث إحياء الله جل وعلا الأرض بعد موتها، أنت الآن تأتي إلى أرض لا فيها لا عشب ولا نبات إلى آخره، وتأخذ التراب وتمحصه وتنظر هل فيه بذور، هل ترى بذور وتشوف هذه بذرة كذا، لا ترى بذورا، إذا أنزل الله جل وعلا عليه الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى، الآن هذه الأرض فيها كثير من بذور بني آدم.
خفف الوطأ فما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
فهناك بذور كثيرة.
فالله جل وعلا أقام البرهان على إعادة البعث بما تراه من إحياء الأرض الميتة، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «كل شيء يبلى من ابن آدم إلا عَجْب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» يعني هذه البذرة يركب الإنسان.
فإذا أراد الله جل وعلا قيام الناس من رب العالمين هناك نفخة الصعق يموت الجميع، بين نفخة الصعق ونفخة البعث هناك أحوال عظيمة يكون فيها تغيّر هذا الكون، الأرض لا أحد عليها تتغير، الجبال تذهب ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا﴾[طه:105-106] يعني الأرض ﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾[طه:107]، هذا الذي دفن وراء جبل أو دفن في سهل خلاص الأرض استوت، صارت الآن الجبال ذاهبة، الوديان أيضا تتغير، الأرض مُدت، السماء تغيرت، الشمس كورت، القمر تغير.
يعني أن ما بين النفختين تتغير فيه أحوال الملكوت لأجل الاستعداد ليوم القيامة العظيم.
ثم جل وعلا يُرسل مطرا كما ثبت ذلك في الحديث تمطر به الأرض أربعين صباحا، وهذا المطر وصفه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بأنه كمني الرجال؛ يعني أبيض غليظ، ليس من مني الرجال لكنه كمني الرجال يناسب تلك الإعادة، وتتخيل الأرض والناس الآن بذر فيها، فيمطر الله جل وعلا ذلك المطر، وكما تنبت الآن الأرض بالمطر كذلك تنبت الأرض بالأجسام تنبت أجسام عكس الذي حصل أولا، يعني خلق آدم ثم عكسه،ثم يرجع من جديد، وآخر شيء تأتي الروح.
وقد قال فيها ابن القيم في أبيات جميلة في النونية قال:
وإذا أراد اللهُ إخراج الورى بعد الممات إلى المعاد الثاني
ألقى على الأرض التي هم تحتها والله مقتدر وذو سلطان
مطرا غليظا أبيضا متتابعا عشرا وعشرا بعدها عشران
فتظل تنبت منه أجسام الورى مثل النبات كأجمل الرّيحان
حتى إذا ما الأم حان ولادها وتمخضت فنفاسها متداني
أوحى لها ربُّ السماء فتشقّقت فإذا الجنين كأكمل الشبان
يعني عمره ثلاث وثلاثين سنة، هذه أجساد بدون أرواح.
فيأمر الله جل وعلا الملك أن ينفخ في الصور نفخة الحياة؛ نفخة البعث بعد الموت ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾[الزمر8].
هنا قال جل وعلا في سورة القيامة ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ وهذا في شيء ليس هو مجرّد جمع العظام الذي استغربه المشركون، ولكن أبلغ، حتى البنان سيعود كما هو، البنان هذا الذي لا يشترك واحد من الخلق مع آخر في شكل بنانه -يعني في شكله- فإنه سيعود كما كان، بهذه البذرة الصغيرة من آخر عظم الظهر، يعني أن كل إنسان سيعود الأرواح وأرواح السعداء في الجنة وأرواح الأشقياء في النار، ثم تعود الأرواح إلى الأجساد في أعظم اتصال وأبلغ اتصال بما لا يكون معه انفكاك، حياة دائمة لا يقبلها الجسد الانفكاك عن الروح ولا الروح الانفكاك عن الجسد.
في هذه السورة بين جل علا في أولها هذا يوم القيامة واستغراب من استغرب ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ الإنسان هنا المراد به الإنسان الكافر لأن المؤمن يؤمن بذلك.
في آخر السورة أقام البرهان على ذلك فكر في نفسك كيف جئت ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)﴾ بلى إنك قادر سبحانك.
السورة موضوعها واحد/
وفي أولها ذكر يوم القيامة والاستغراب الكافر له.
وفي آخرها البرهان على ذلك -أحد البراهين-.
وما بين ذلك فيها وصف لما يحصل يوم القيامة وفيها وصف للكافر وصف للمؤمن وصف للسعداء ووصف للأشقياء وحالة الموت الذي لا يفرّ منه لا يستطيع أحد أن يفرَّ منه.
فالواجب على كل مسلم خاصة في هذا الشهر الكريم أن يعوِّد نفسَه تدبر القرآن؛ لأن الله جل وعلا أمر عباده بالتدبر، وبالتدبُّر يحصل القلب أمور السرور والانشراح والبهجة لأنّ الله أمرك بذلك حيث قال سبحانه ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد:24]، وقال ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾[النساء2]. وقال ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾[المؤمنون8] وقال ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[ص:29].
فإذن القرآن يحتاج إلى تدبر، وأهل الذكر الذين مدحهم الله جل وعلا هم أهل القرآن الذين تدبروا وعلموا وفقهوا الذي عنده استعداد لفقه الكتاب وفقه السنة فيسعى لذاك ويفقه، والتفسير بحره طويل من جهة لغته ومن جهة العقيدة التي يمكن تقريرها عن طريق التفسير والمسائل.
والسورة مليئة بمسائل كثيرة؛ لكن نكتفي بهذه الإشارة عن غيرها لضيق الوقت.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم البصيرة في الدين، وأن يجعلنا من أهل القرآن، ومن المتدبرين فيه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹